سورة النساء - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً} روي أنها نزلت في رجل من غطفان يقال له: مرثد بن زيد، ولي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله، فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية، قاله مقاتل بن حيان، ولهذا قال الجمهور: إن المراد الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم.
وقال ابن زيد: نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار. وسمي أخذ المال على كل وجوهه أكلا، لما كان المقصود هو الأكل وبه أكثر إتلاف الأشياء. وخص البطون بالذكر لتبيين نقصهم، والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخلاق. وسمي المأكول نارا بما يئول إليه، كقوله تعالى: {إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً} أي عنبا.
وقيل: نارا أي حراما، لأن الحرام يوجب النار، فسماه الله تعالى باسمه.
وروى أبو سعيد الخدري قال: حدثنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ليلة أسري به قال: «رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما». فدل الكتاب والسنة على أن أكل مال اليتيم من الكبائر.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجتنبوا السبع الموبقات» وذكر فيها: «وأكل مال اليتيم».
الثانية: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً} وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية ابن عباس بضم الياء على اسم ما لم يسم فاعله، من أصلاه الله حر النار إصلاء. قال الله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} قرأ أبو حيوة بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام من التصلية لكثرة الفعل مرة بعد أخرى. دليله قوله تعالى: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ}. ومنه قولهم: صليته مرة بعد أخرى. وتصليت: استدفأت بالنار. قال:
وقد تصليت حر حربهم *** كما تصلى المقرور من قرس
وقرأ الباقون بفتح الياء من صلي النار يصلاها صلى وصلاء. قال الله تعالى: {لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى}. والصلاء هو التسخن بقرب النار أو مباشرتها، ومنه قول الحارث بن عباد:
لم أكن من جناتها علم الله *** وإني لحرها اليوم صال
والسعير: الجمر المشتعل.
الثالثة: وهذه آية من آيات الوعيد، ولا حجة فيها لمن يكفر بالذنوب. والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة فيصلى ثم يحترق ويموت، بخلاف أهل النار لا يموتون ولا يحيون، فكأن هذا جمع بين الكتاب والسنة، لئلا يقع الخبر فيهما على خلاف مخبره، ساقط بالمشيئة عن بعضهم، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ}. وهكذا القول في كل ما يرد عليك من هذا المعنى. روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما أهل النار الذين هم أهلها فيها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم- أو قال بخطاياهم- فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجئ بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل». فقال رجل من القوم كأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كان يرعى بالبادية.


{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)}
فيه خمس وثلاثون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} بين تعالى هذه الآية ما أجمله في قوله: {لِلرِّجالِ نَصِيبٌ} و{لِلنِّساءِ نَصِيبٌ} فدل هذا على جواز تأخير البيان عن وقت السؤال. وهذه الآية ركن من أركان الدين، وعمدة من عمد الأحكام، وام من أمهات الآيات، فإن الفرائض عظيمة القدر حتى أنها ثلث العلم، وروي نصف العلم. وهو أول علم ينزع من الناس وينسى. رواه الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإنه نصف العلم وهو أول شيء ينسى وهو أول شيء ينتزع من أمتي». وروي أيضا عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تعلموا القرآن وعلموه الناس وتعلموا الفرائض وعلموها الناس وتعلموا العلم وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يفصل بينهما». وإذا ثبت هذا فاعلم أن الفرائض كان جل علم الصحابة، وعظيم مناظرتهم، ولكن الخلق ضيعوه. وقد روى مطرف عن مالك، قال عبد الله بن مسعود: من لم يتعلم الفرائض والطلاق والحج فبم يفضل أهل البادية؟ وقال ابن وهب عن مالك: كنت أسمع ربيعة يقول: من تعلم الفرائض من غير علم بها من القرآن ما أسرع ما ينساها. قال مالك: وصدق.
الثانية: روى أبو داود والدارقطني عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة». قال الخطابي أبو سليمان: الآية المحكمة هي كتاب الله تعالى: واشترط فيها الأحكام، لأن من الآي ما هو منسوخ لا يعمل به، وإنما يعمل بناسخه. والسنة القائمة هي الثابتة مما جا عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السنن الثابتة. وقوله: «أو فريضة عادلة» يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما- أن يكون من العدل في القسمة، فتكون معدلة على الأنصباء والسهام المذكورة في الكتاب والسنة. والوجه الآخر- أن تكون مستنبطة من الكتاب والسنة ومن معناهما، فتكون هذه الفريضة تعدل ما أخذ من الكتاب والسنة إذ كانت في معنى ما أخذ عنهما نصا. روى عكرمة قال: أرسل ابن عباس إلى زيد بن ثابت يسأله عن امرأة تركت زوجها وأبويها. قال: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي. فقال: تجده في كتاب الله أو تقول برأي؟ قال: أقوله برأي، لا أفضل أما على أب. قال أبو سليمان: فهذا من باب تعديل الفريضة إذا لم يكن فيها نص، وذلك أنه اعتبرها بالمنصوص عليه، وهو قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}. فلما وجد نصيب الام الثلث، وكان باقي المال هو الثلثان للأب، قاس النصف الفاضل من المال بعد نصيب الزوج على كل المال إذا لم يكن مع الوالدين ابن أو ذو سهم، فقسمه بينهما على ثلاثة، للأم سهم وللأب سهمان وهو الباقي. وكان هذا أعدل في القسمة من أن يعطي الام من النصف الباقي ثلث جميع المال، وللأب ما بقي وهو السدس، ففضلها عليه فيكون لها وهي مفضولة في أصل الموروث أكثر مما للأب وهو المقدم والمفضل في الأصل. وذلك أعدل مما ذهب إليه ابن عباس من توفير الثلث على الام، وبخس الأب حقه برده إلى السدس، فترك قوله وصار عامة الفقهاء إلى زيد. قال أبو عمر: وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه في زوج وأبوين: للزوج النصف، وللأم ثلث جميع المال، وللأب ما بقي.
وقال في امرأة وأبوين: للمرأة الربع، وللأم ثلث جميع المال، والباقي للأب. وبهذا قال شريح القاضي ومحمد بن سيرين وداود ابن علي، وفرقة منهم أبو الحسن محمد بن عبد الله الفرضي المصري المعروف بابن اللبان في المسألتين جميعا. وزعم أنه قياس قول علي في المشتركة.
وقال في موضع آخر: إنه قد روي ذلك عن علي أيضا. قال أبو عمر: المعروف المشهور عن علي وزيد وعبد الله وسائر الصحابة وعامة العلماء ما رسمه مالك. ومن الحجة لهم على ابن عباس: أن الأبوين إذا اشتركا في الوراثة، ليس معهما غيرهما، كان للأم الثلث وللأب الثلثان. وكذلك إذا اشتركا في النصف الذي يفضل عن الزوج، كانا فيه كذلك على ثلث وثلثين. وهذا صحيح في النظر والقياس.
الثالثة: واختلفت الروايات في سبب نزول آية المواريث، فروى الترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارقطني عن جابر بن عبد الله أن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله، إن سعدا هلك وترك بنتين واخاه، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد، وإنما تنكح النساء على أموالهن، فلم يجبها في مجلسها ذلك. ثم جاءته فقالت: يا رسول الله، ابنتا سعد؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادع لي أخاه» فجاء فقال له: «ادفع إلى ابنته الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي». لفظ أبي داود. في روا الترمذي وغيره: فنزلت آية المواريث. قال: هذا حديث صحيح.
وروى جابر أيضا قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة يمشيان، فوجداني لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ، ثم رش علي منه فأفقت. فقلت: كيف أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}. أخرجاه في الصحيحين. وأخرجه الترمذي وفيه: فقلت يا نبي الله كيف أقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد علي شيئا فنزلت {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} الآية. قال: حديث حسن صحيح.
وفي البخاري عن ابن عباس أن نزول ذلك كان من أجل أن المال كان للولد، والوصية للوالدين، فنسخ ذلك بهذه الآيات.
وقال مقاتل والكلبي: نزلت في أم كحة، وقد ذكرناها. السدي: نزلت بسبب بنات عبد الرحمن بن ثابت أخي حسان بن ثابت.
وقيل: إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون إلا من لاقى الحروب وقاتل العدو، فنزلت الآية تبيينا أن لكل صغير وكبير حظه. ولا يبعد أن يكون جوابا للجميع، ولذلك تأخر نزولها. والله أعلم. قال إلكيا الطبري: وقد ورد في بعض الآثار أن ما كانت الجاهلية تفعله من ترك توريث الصغير كان في صدر الإسلام إلى أن نسخته هذه الآية ولم يثبت عندنا اشتمال الشريعة على ذلك، بل ثبت خلافه، فإن هذه الآية نزلت في ورثة سعد بن الربيع.
وقيل: نزلت في ورثة ثابت بن قيس بن شماس. والأول أصح عند أهل النقل. فاسترجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الميراث من العم، ولو كان ذلك ثابتا من قبل في شرعنا ما استرجعه. ولم يثبت قط في شرعنا أن الصبي ما كان يعطى الميراث حتى يقاتل على الفرس ويذب عن الحريم.
قلت: وكذلك قال القاضي أبو بكر بن العربي قال: ودل نزول هذه الآية على نكتة بديعة، وهو أن ما كانت عليه الجاهلية تفعله من أخذ المال لم يكن في صدر الإسلام شرعا مسكوتا مقرا عليه، لأنه لو كان شرعا مقرا عليه لما حكم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عم الصبيتين برد ما أخذ من مالهما، لأن الأحكام إذا مضت وجاء النسخ بعدها إنما يؤثر في المستقبل فلا ينقض به ما تقدم وإنما كانت ظلامة رفعت. قاله ابن العربي.
الرابعة: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} قالت الشافعية: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} حقيقة في أولاد الصلب، فأما يدخل فيه بطريق المجاز، فإذا حلف أنلا ولد له وله ولد ابن لم يحنث، وإذا أوصى لولد فلان لم يدخل فيه ولد ولده. وأبو حنيفة يقول: انه يدخل فيه ان لم يكن له ولد صلب. ومعلوم أن الا لفاظ لا تتغير بما قالوه.
الخامسة: قال ابن المنذر: لما قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} فكان الذي يجب على ظاهر الآية أن يكون الميراث لجميع الأولاد، المؤمن منهم والكافر، فلما ثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا يرث المسلم الكافر» علم أن الله أراد بعض الأولاد دون بعض، فلا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم على ظاهر الحديث.
قلت: ولما قال تعالى: {فِي أَوْلادِكُمْ} دخل فيهم الأسير في أيدي الكفار، فإنه يرث ما دام تعلم حياته على الإسلام. وبه قال كافة أهل العلم، إلا النخعي فإنه قال: لا يرث الأسير. فأما إذا لم تعلم حياته فحكمه حكم المفقود. ولم يدخل في عموم الآية ميراث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله: «لا نورث ما تركنا صدقة». وسيأتي بيانه في مريم ان شاء الله تعالى. وكذلك لم يدخل القاتل عمدا لأبيه أوجده أو أخيه أو عمه بالسنة وإجماع الامة، وأنه لا يرث من مال من قتله ولا من ديته شيئا، على ما تقدم بيانه في البقرة. فإن قتله خط فلا ميراث له من الدية، ويرث من المال في قول مالك، ولا يرث في قول الشافعي


{وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15)}
فيه ثمان مسائل:
الأولى: لما ذكر الله تعالى في هذه السورة الإحسان إلى النساء وإيصال صدقاتهن إليهن، وانجر الامر إلى ذكر ميراثهن مع مواريث الرجال، ذكر أيضا التغليظ عليهن فيما يأتين به من الفاحشة، لئلا تتوهم المرأة أنه يسوغ لها ترك التعفف.
الثانية: قوله تعالى: {وَاللَّاتِي} {اللَّاتِي} جمع التي، وهو اسم مبهم للمؤنث، وهي معرفة ولا يجوز نزع الألف واللام منه للتنكير، ولا يتم إلا بصلته، وفيه ثلاث لغات كما تقدم. ويجمع أيضا اللات بحذف الياء وإبقاء الكسرة، واللائي بالهمزة وإثبات الياء، واللاء بكسر الهمزة وحذف الياء، واللا بحذف الهمزة. فإن جمعت الجمع قلت في اللاتي: اللواتي، وفي اللاء: اللوائي. وقد روي عنهم اللوات بحذف الياء وإبقاء الكسرة، قاله ابن الشجري. قال الجوهري: أنشد أبو عبيد:
من اللواتي والتي واللات *** زعمن أن قد كبرت لدات
واللوا بإسقاط التاء. وتصغير التي اللتيا بالفتح والتشديد، قال الراجز:
بعد اللتيا واللتيا والتي ***
وبعض الشعراء أدخل على التي حرف النداء، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا: يا الله وحده، فكأنه شبهها به من حيث كانت الألف واللام غير مفارقتين لها. وقال:
من أجلك يا لتي تيمت قلبي *** وأنت بخيلة بالود عنى
ويقال: وقع في اللتيا والتي، وهما اسمان من أسماء الداهية.
الثالثة: قوله تعالى: {يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ} الفاحشة في هذا الموضع الزنا، والفاحشة الفعلة القبيحة، وهي مصدر كالعاقبة والعافية. وقرأ ابن مسعود {بالفاحشة} بباء الجر.
الرابعة: قوله تعالى: {مِنْ نِسائِكُمْ} إضافة في معنى الإسلام وبيان حال المؤمنات، كما قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ} لان الكافرة قد تكون من نساء المسلمين بنسب ولا يلحقها هذا الحكم.
الخامسة: قوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} أي من المسلمين، فجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعة تغليظا على المدعي وسترا على العباد. وتعديل الشهود بالأربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً} وقال هنا: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}.
وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم قد زنيا فقال: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ائتوني بأعلم رجلين منكم» فأتوه بابني صوريا فنشدهما: «كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟» قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما. قال: «فما يمنعكما أن ترجموهما»، قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشهود، فجاءوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برجمهما.
وقال قوم: إنما كان الشهود في الزنا أربعة ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق، إذ هو حق يؤخذ من كل واحد منهما، وهذا ضعيف، فإن اليمين تدخل في الأموال واللوث في القسامة ولا مدخل لواحد منهما هنا.
السادسة: ولا بد أن يكون الشهود ذكورا، لقوله: {مِنْكُمْ} ولا خلاف فيه بين الامة. وأن يكونوا عدولا، لأن الله تعالى شرط العدالة في البيوع والرجعة وهذا أعظم، وهو بذلك أولى. وهذا من حمل المطلق على المقيد بالدليل، على ما هو مذكور في أصول الفقه. ولا يكونون ذمة، وإن كان الحكم على ذمية، وسيأتي ذلك في المائدة وتعلق أبو حنيفة بقوله: {أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} في أن الزوج إذا كان أحد الشهود في القذف لم يلاعن. وسيأتي بيانه في النور إن شاء الله تعالى.
السابعة: قوله تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} هذه أول عقوبات الزناة، وكان هذا في ابتداء الإسلام، قاله عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد حتى نسخ بالأذى الذي بعده، ثم نسخ ذلك بأية النور وبالرجم في الثيب. وقالت فرقة: بل كان الإيذاء هو الأول ثم نسخ بالإمساك، ولكن التلاوة أخرت وقدمت، ذكره ابن فورك، وهذا الإمساك والحبس في البيوت كان في صدر الإسلام قبل أن يكثر الجناة، فلما كثروا وخشي قوتهم اتخذ لهم سجن، قاله ابن العربي.
الثامنة: واختلف العلماء هل كان هذا السجن حدا أو توعدا بالحد على قولين: أحدهما- أنه توعد بالحد، والثاني- أنه حد، قاله ابن عباس والحسن. زاد ابن زيد: وأنهم منعوا من النكاح حتى يموتوا عقوبة لهم حين طلبوا النكاح من غير وجهه. وهذا يدل على أنه كان حدا بل أشد، غير أن ذلك الحكم كان ممدودا إلى غاية وهو الأذى في الآية الأخرى، على اختلاف التأويلين في أيهما قبل، وكلاهما ممدود إلى غاية وهي قوله عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم». وهذا نحو قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} فإذا جاء الليل ارتفع حكم الصيام لانتهاء غايته لا لنسخه هذا قول المحققين المتأخرين من الأصوليين، فإن النسخ إنما يكون في القولين المتعارضين من كل وجه اللذين لا يمكن الجمع بينهما، والجمع ممكن بين الحبس والتعيير والجلد والرجم، وقد قال بعض العلماء: أن الأذى والتعيير باق مع الجلد، لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد. وأما الحبس فمنسوخ بإجماع، وإطلاق المتقدمين النسخ على مثل هذا تجوز. والله أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8